فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)}.
وفيه وجهان، والترتيب ظاهر على الوجهين الوجه الأول: هو أن يكون المعنى واضرب لأجلهم مثلًا والثاني: أن يكون المعنى واضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلًا أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية وعلى الأول نقول لما قال الله: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 3] وقال: {لّتُنذِرَ} [يس: 6] قال قل لهم: {مَا كُنتُ بِدْعًا مّنَ الرسل} [الأحقاف: 9] بل قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة، وعلى الثاني نقول لما قال الله تعالى إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه الصلاة والسلام فلا تأس واضرب لنفسك ولقومك مثلًا، أي مثل لهم عند نفسك مثلًا حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا وصبر الرسل على القتل والإيذاء، وأنت جئتهم واحدًا وقومك أكثر من قوم الثلاثة فإنهم جاؤا قرية وأنت بعثت إلى العالم، وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى:
ما معنى قول القائل ضرب مثلًا؟ وقوله تعالى: {واضرب} مع أن الضرب في اللغة، إما إمساس جسم جسمًا بعنف، وإما السير إذا قرن به حرف في كقوله تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} [النساء: 101] نقول قوله ضرب مثلًا معناه مثل مثلًا، وذلك لأن الضرب اسم للنوع يقال هذه الأشياء من ضرب واحد أي اجعل هذا وذاك من ضرب واحد.
المسألة الثانية:
أصحاب القرية، معناه واضرب لهم مثلًا مثل أصحاب القرية فترك المثل وأقيم الأصحاب مقامه في الإعراب كقوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] هذا قول الزمخشري في الكشاف، ويحتمل أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلًا أو مثل أصحاب القرية بهم.
المسألة الثالثة:
{إذ جاءها المرسلون} {إذ} منصوبة لأنها بدل من {أصحاب القرية} كأنه قال تعالى: {واضرب لَهُم} وقت مجيء المرسلين ومثل ذلك الوقت بوقت مجيئك، وهذا أيضًا قول الزمخشري وعلى قولنا إن هذا المثل مضروب لنفس محمد صلى الله عليه وسلم تسلية فيحتمل أن يقال إذا ظرف منصوب بقوله: {اضرب} أي اجعل الضرب، كأنه حين مجيئهم وواقع فيه، والقرية أنطاكية والمرسلون من قوم عيسى وهم أقرب مرسل أرسل إلى قوم إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة كما بين الله تعالى وقوله: {إِذ أَرْسَلْنَا} [يس: 14] يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون إذ أرسلنا بدلًا من إذ جاءها كأنه قال الضرب لهم مثلًا، إذ أرسلنا إلى أصحاب القرية اثنين وثانيهما: وهو الأصح والأوضح أن يكون إذ ظرفًا والفعل الواقع فيه جاءها أي جاءها المرسلون حين أرسلناهم إليهم أي لم يكن مجيئهم من تلقاء أنفسهم وإنما جاءوهم حيث أمروا، وهذا فيه لطيفة: وهي أن في الحكاية أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى: إرسال عيسى عليه السلام هو إرسالنا ورسول رسول الله بإذن الله رسول الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رسل الرسول وأنت رسول الله فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله: {إِذ أَرْسَلْنَا} وهذا يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول، وهذا على قولنا: {واضرب لَهُمْ مَّثَلًا} ضرب المثل لأجل محمد صلى الله عليه وسلم ظاهر.
{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)}.
في بعثة الأثنين حكمة بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى والإتيان بما أمر الله، والله عالم بكل شيء لا يحتاج إلى شاهد يشهد عنده، وأما عيسى فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى حجة تامة.
وقوله: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي قوينا وقرئ {فعززنا بثالث} مخففًا، من عز إذا غلب فكأنه قال فغلبنا نحن وقهرنا بثالث والأول أظهر وأشهر وترك المفعول حيث لم يقل فعززناهما لمعنى لطيف وهو أن المقصود من بعثهما نصرة الحق لا نصرتهما والكل مقوون للدين المتين بالبرهان المبين، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
النبي صلى الله عليه وسلم بعث رسله إلى الأطراف واكتفى بواحد وعيسى عليه السلام بعث اثنين، نقول النبي بعث لتقرير الفروع وهو دون الأصول فاكتفى بواحد فإن خبر الواحد في الفروع مقبول، وأما هما فبعثا بالأصول وجعل لهما معجزة تفيد اليقين وإلا لما كفى إرسال اثنين أيضًا ولا ثلاثة.
المسألة الثانية:
قال الله تعالى لموسى عليه السلام {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} [القصص: 35] فذكر المفعول هناك ولم يذكره هاهنا مع أن المقصود هناك أيضًا نصرة الحق، نقول موسى عليه السلام كان أفضل من هارون وهارون بعث معه بطلبه حيث قال: {فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ} [القصص: 34] فكان هارون معبوثًا ليصدق موسى فيما يقول ويقوم بما يأمره، وأما هما فكل واحد مستقل ناطق بالحق فكان هناك المقصود تقوية موسى وإرسال من يؤنس معه وهو هارون، وأما هاهنا فالمقصود تقوية الحق فظهر الفرق.
{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)}.
ثم بين الله ما جرى منهم وعليهم مثل ما جرى من محمد صلى الله عليه وسلم وعليه فقالوا: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} [يس: 14] كما قال: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 3] وبين ما قال القوم بقوله: {قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ} جعلوا كونهم بشرًا مثلهم دليلًا على عدم الإرسال، وهذا عام من المشركين قالوا في حق محمد: {أأنزل عَلَيْهِ الذكر} [ص: 8] وإنما ظنوه دليلًا بناءً على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار، وإنما قالوا فيه إنه موجب بالذات وقد استوينا في البشرية فلا يمكن الرجحان، والله تعالى رد عليهم قولهم بقوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وبقوله: {الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء} [الشورى: 13] إلى غير ذلك، وقوله: {وما أَنزَلَ الرحمن مِن شَيْءٍ} يحتمل وجه أحدهما: أن يكون متممًا لما ذكروه فيكون الكل شبهة واحدة، ووجهه هو أنهم قالوا أنتم بشر فما نزلتم من عند الله وما أنزل الله إليكم أحدًا، فكيف صرتم رسلًا لله؟ ثانيهما: أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة ووجهه هو أنهم لما قالوا أنتم بشر مثلنا فلا يجوز رجحانكم علينا ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المرسلين، ثم قالوا شبهة أخرى من جهة المرسل، وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئًا في هذا العالم، فإنه تصرفه في العالم العلوي وللعلويات التصرف في السفليات على مذهبهم، فالله تعالى لم ينزل شيئًا من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم، وقوله: {الرحمن} إشارة إلى الرد عليهم، لأن الله لما كان رحمن الدنيا والإرسال رحمة، فكيف لا ينزل رحمته وهو رحمن، فقال إنهم قالوا: ما أنزل الرحمن شيئًا، وكيف لا ينزل الرحمن مع كونه رحمن شيئًا، هو الرحمة الكاملة.
ثم قال تعالى: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} أي ما أنتم إلا كاذبين.
{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)}.
إشارة إلى أنهم بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا، بل أعادوا ذلك لهم وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين وقالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وأكدوه باللام، لأن يعلم الله يجري مجرى القسم، لأن من يقول يعلم الله فيما لا يكون قد نسب الله إلى الجهل وهو سبب العقاب، كما أن الحنث سببه، وفي قوله: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} إشارة إلى الرد عليهم حيث قالوا أنتم بشر، وذلك لأن الله إذا كان يعلم أنهم لمرسلون، يكون كقوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] يعني هو عالم بالأمور وقادر، فاختارنا بعلمه لرسالته.
{وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)}.
تسلية لأنفسهم، أي نحن خرجنا عن عهدة ما علينا وحثًا لهم على النظر، فإنهم لما قالوا: {مَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ} كان ذلك يوجب تفكرهم في أمرهم حيث لم يطلبوا منهم أجرًا ولا قصدوا رياسة، وإنما كان شغلهم التبليغ والذكر، وذلك مما يحمل العاقل على النظر و{المبين} يحتمل أمورًا أحدها: البلاغ المبين للحق عن الباطل، أي الفارق بالمعجزة والبرهان وثانيها: البلاغ المظهر لما أرسلنا للكل، أي لا يكفي أن نبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين وثالثها: البلاغ المظهر للحق بكل ما يمكن، فإذا تم ذلك ولم يقبلوا يحق هنالك الهلاك.
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)}.
ثم كان جوابهم بعد هذا أنهم قالوا إنا تطيرنا بكم وذلك أنه لما ظهر من الرسل المبالغة في البلاغ ظهر منهم الغلو في التكذيب، فلما قال المرسلون: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} [يس: 14] قالوا: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15] ولما أكد الرسل قولهم باليمين حيث قالوا: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} [يس: 16] أكدوا قولهم بالتطير بهم فكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين، وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب، حالفين مقسمين عليه، و اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع فتشاءمنا بكم ثانيًا، وفي الأول كما تركتم ففي الثاني لا نترككم لكون الشؤم مدركنا بسببكم فقالوا: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقوله لنرجمنكم يحتمل وجهين أحدهما: لنشتمنكم منا لرجم بالقول وعلى هذا فقوله: {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ} ترق كأنهم قالوا ولا يكتفي بالشتم، بل يؤدي ذلك إلى الضرب والإيلام الحسي وثانيهما: أن يكون المراد الرجم بالحجارة، وحينئذٍ فقوله: {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ} بيان للرجم، يعني ولا يكون الرجم رجمًا قليلًا نرجمكم بحجر وحجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو عذاب أليم، ويكون المراد لنرجمنكم وليمسنكم بسبب الرجم عذاب منا أليم، وقد ذكرنا في الأليم أنه بمعنى المؤلم، والفعيل معنى مفعل قليل، ويحتمل أن يقال هو من باب قوله: {عَيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أي ذات رضا، فالعذاب الأليم هو ذو ألم، وحينئذٍ يكون فعيلًا بمعنى فاعل وهو كثير.
{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)}.
ثم أجابهم المرسلون بقولهم: {قَالُواْ طائركم مَّعَكُمْ} أي شؤمكم معكم وهو الكفر.
ثم قالوا: {أَئن ذُكَّرْتُم} جوابًا عن قولهم: {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} يعني أتفعلون بنا ذلك، وإن ذكرتم أي بين لكم الأمر بالمعجز والبرهان {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} حيث تجعلون من يتبرك به كمن يتشاءم به وتقصدون إيلام من يجب في حقه الإكرام أو {مسرفون} حيث تكفرون، ثم تصرون بعد ظهور الحق بالمعجز والبرهان، فإن الكافر مسيء فإذا تم عليه الدليل وأوضح له السبيل ويصر يكون مسرفًا، والمسرف هو المجاوز الحد بحيث يبلغ الضد وهم كانوا كذلك في كثير من الأشياء، أما في التبرك والتشاؤم فقد علم وكذلك في الإيلام والإكرام، وأما في الكفر فلأن الواجب اتباع الدليل، فإن لم يوجد به فلا أقل من أن لا يجزم بنقيضه وهم جزموا بالكفر بعد البرهان على الإيمان، فإن قيل بل للإضرار فما الأمر المضرب عنه؟ نقول يحتمل أن يقال قوله: {أَئن ذُكَّرْتُم} وارد على تكذيبهم ونسبتهم الرسل إلى الكذب بقولهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15] فكأنهم قالوا: أنحن كاذبون وإن جئنا بالبرهان، لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أن يقال أنحن مشئومون، وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه، لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أن يقال أنحن مستحقون للرجم والإيلام، وإن بينا صحة ما أتينا به، لا بل أنتم قوم مسرفون وأما الحكاية فمشهورة، وهي أن عيسى عليه السلام بعث رجلين إلى أنطاكية فدعيا إلى التوحيد وأظهرا المعجزة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فحبسهما الملك، فأرسل بعدهما شمعون فأتى الملك ولم يدع الرسالة، وقرب نفسه إلى الملك بحسن التدبير، ثم قال له: إني أسمع أن في الحبس رجلين يدعيان أمرًا بديعًا، أفلا يحضران حتى نسمع كلامهما؟ قال الملك: بلى، فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقة، فقال لهما شمعون: فهل لكما بينة؟ قالا: نعم، فأبرآ الأكمة والأبرص وأحييا الموتى، فقال شمعون: أيها الملك، إن شئت أن تغلبهم، فقال للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئًا من ذلك، قال الملك: أنت لا يخفى عليك أنها لا تبصر ولا تسمع ولا تقدر ولا تعلم، فقال شمعون: فإذن ظهر الحق من جانبهم، فآمن الملك وقوم وكفر آخرون، وكانت الغلبة للمكذبين. اهـ.